البحث عن مساحة

 

تيسير نظمي

 

جميع الحقوق محفوظة

 

الطبعة الأولى

 

يونيو / يوليو 1979

 

 

البحث عن مساحة

 

تيسير نظمي

 

 

" وقوفا أيها الرفاق

 

فالجبل على صواب

 

إنه الحل الوحيد ..."

 

مالك حداد

 

 

 

الكتاب الأول

 

خارطة للموتى خارطة للوطن

 

 

حرس الحدود

 

1-  داخل القطار

 

يطل بعينيه من نافذة القطار . على الرصيف جمع غفير من المودعين. تلوح المناديل حمراء وصفراء كمزيج من الألوان اختلط بملابس المودعين. ظل أمام نافذته يراقب المشهد. في أعينهم دموع وفي عينيه حنين . في ضجتهم لوعة وفي صمته احتراق مكتوم . بينه وبين الشجر الواقف قبالته بمحاذاة الرصيف حوار صامت حزين . وعلى الأفق بدت مآذن ودخان وضجة . وفي الأعماق صخب قطاره الخاص . كل ما يفكر به : السفر ، الوصول . علامات الاستفهام المفترسة خلف أسئلة الآخرين . متفرد بصمته . متفرد بتأملاته للجموع . الحركة ... الوداع .. الدموع .. المناديل .. القبلات ... الأحضان .. الأيدي تتشابك ...الالتحام ...التفرق ... سلامات. هدر القطار فازدادت الأيدي ارتفاعا . وازداد الموج المتلاطم في أعماقه علوا ورهبة.. وعندما انتظمت الحركة و تصاعدت شهقات القطار ظل من بين عشرات المناديل التي اختفت منديل واحد كأنما التف كضماد لجرح قديم بين أضلاعه. وحينذاك سالته :

 

-        من ودعك ؟

 

فأجاب وهو يفيق من غيبوبة حزن عميقة :

 

-        شجر بلا مناديل

 

لم تصدق ولم تفهم

 

            - ومن بانتظارك هناك ؟

 

            - مناديل بلا شجر

 

            وجدت في اجابته نوعا من الدعابة محببا ، استمرت في مراقبتها من خلال النافذة ثم همست :

 

            - الشجر يتحرك ..

 

            فقال هو مصححا دون أن يحرك رأسه:

 

            - القطار ..

 

            ضحكت لإشارته ثم جذبتها رنة صوته الدافئة بوهج حزن غائر ، قالت:

 

            - أنا أفهم أنه القطار – ثم مبتسمة في ملامحه الشاردة – وليس الشجر.

 

            التفت إليها ، بيضاء ، شعرها يتهدل حول قسماتها الوادعة.

 

            - ملامحك تذكرني بحب قديم.

 

            كان جادا لكن لهجته هذه المرة أوحت لها  بأنه يلاطفها.

 

            - يبدو أن السفر بصحبتك ممتع للغاية .. ما اسمك ؟

 

            - جواز سفري في حقيبة

 

            - وهويتك ؟

 

            - من فلسطين

 

            - وما اسمك ؟

 

            - فلسطيني

 

            عضت على شفتها السفلى.

 

            - أهلا بك.

 

            - لا تضعي النقاط خلف عباراتك

 

            - لماذا ؟

 

            - لأن النقطة تشغل حيزا من المكان ولذلك تجرحينني

 

            - حسن فلن أضع نقاطا هذه المرة

 

            - هذا أمر مشجع الآن

 

            - ولأنك فلسطيني ؟

 

            ابتدأ سفري منذ قرابة عشرين سنة

 

            - والقطار ؟

 

            - قطار الذكريات

 

            - والمحطات ؟

 

            - كل البلدان العربية

 

            - والنهاية ؟

 

            - لا تضعي علامات استفهام فإنها تتسع ولذلك تشنقينني

 

            - حسن فلن أضع هذه المرة علامة استفهام

 

            - والنهاية حدود بلا هوية

 

            رأى في عينيها بريق دمعة تتوثب فأدار وجهه وواصل تأملاته ، وفي عينيه لمعت جيشانات المشاعر بدموع.

 

            - ( اشتقت للأقارب بالضفة الغربية . طلبت تصريحا فرفضوا . اسمك على هويتك يصبح عدوك . اسم له ماض سياسي .. حزبي .. والنهر لم يعد فاصلا حقيقيا بين الضفتين منذ الفاتح من يناير . انما ماضيك هو الفاصل وهو الحدود )

 

            تأملها من جديد . تشبه وجها أحبه من قبل . أين ؟ ومتى ؟ في الذاكرة. والأخيرة في حقيبة. الرمال الهابة تصفع وجهه بينما النعاس يرخي آخر عضلة في جسده .

 

            ***

 

            القطار يمضي كالزمن. ينام. رأسه يتوسد حقيبته.شريط سينمائي يتداعى من عالم آخر :

 

            - من أنت ؟

 

            - ........( يتأمل العابرين للجسر )

 

            يكرر الضابط الإسرائيلي:

 

            - ما اسمك ؟

 

            - ... ( يمد يده . يناولهم جواز سفره)

 

            - اين التصريح ؟

 

            -... ( يتأمل رشاشاتهم . يعيدون إليه جواز السفر )

 

            - هويتك ؟

 

            - ...

 

            يفتح الحقيبة للمرة الثانية. يعيد جواز السفر إلى مكانه ثم يناولهم الهوية فيبتدئ الرفض.

 

            وابتدأ يعود إلى وعيه عندما توقف القطار عند نقطة الحدود. وعندما وجد نفسه يحدق بخاتم المغادرة من البلد الأول بدا النعاس يسري في أوصاله. لم يكن قد مضى على تحرك القطار من نقطة البلد الأول سوى بضع دقائق عندما أحدث توقفه عند نقطة البلد الثاني زعيقا جعل رشدي يستيقظ.

 

            قالت له وفي عينيها ابتسامة ود :

 

            أخرج جواز سفرك مرة أخرى .. لقد وصلنا نقطة الدخول.

 

            - في الحلم سافرت لبلدي. طلبوا الهوية وأهملوا جواز السفر.

 

            - والآن هؤلاء يريدون جواز السفر.

 

            - ويهملون الهوية

 

            ضحكت لتعقيبه.

 

            - أنت سياسي خطر

 

            كانت بيدها برتقالة. بحثت عن سكين. هو قفز حاملا حقيبته وطمس بين الجموع المصطفة على الرصيف.

 

           

 

2-   نقطة تفتيش البلد الثاني

 

 

أعاد الضابط المسؤول إليه جواز سفره متسائلا باستياء بالغ :

 

-        ألم تسمع بالقرار ؟

 

-        أي قرار ؟

 

-        ممنوع دخول أي شخص يحمل جواز سفر أردنيا.

 

-        والمناسبة ؟

 

-        بسبب الفدائيين.

 

كان البلد الثاني قد أغلق حدوده مع الأردن اثر تفجر الاشتباكات بين رجال المقاومة وجنود السلطة الأردنية .

 

وكان انهماك رشدي بالاعداد للسفر قد شغله عن تتبع صدور مثل هذا القرار. وفجأة لاحت على على شفتيه ابتسامة غبية.

 

-        لكنني فلسطيني وأحمل جواز سفر لا ينطق بهويتي.

 

قطب الضابط جبينه دلالة على عدم الارتياح من مناقشة عابثة وقال بلهجة قاطعة :

 

-        - ممنوع يعني ممنوع .. هذه أوامر. أنزل حقائبك من القطار. وسرعان ما أشار إلى حقيبته.

 

-        هذه كل ما أملك .. حصيلة كل تجوالي.

 

وقال مسؤول آخر :

 

-        إفتحها

 

باشر بفتحها وبوده أن تنفجر بأشياء أخرى بدلا من تفجر محتواها بنكتة. بدت فارغة ليس فيها سوى معاملات السفر. وبدا المنظر مضحكا جدا للمسؤول فقال ضاحكا:

 

-        لماذا تحملها مادامت فارغة ؟

 

-         ( ببرود ) لتحمل جواز السفر يا سيدي

 

-        حقيبة ممتازة .. بكم اشتريتها ؟

 

-        ... ( بعشرين سنة )

 

-        إنها كبيرة .

 

-        ( بحجم تفاهتي يا سيدي )

 

لم يرقه الصمت فأشاح بوجهه وانهمك في عمل آخر.

 

وقبل أن يفكر رشدي بما آلت إليه حالته شدت اهتمامه صرخات امرأة بدوية قد التفت بثوب أسود ممزق عند نهديها. فجأة نهض الضابط المسؤول من خلف مكتبه وأشار إلى رشدي بأن يتبعه.

 

-        هذه السيارة ستنقلكما إلى نقطة تفتيش البلد المجاور الذي أتيت منه ، ثم قال للسائق بلهجة آمرة :

 

-        قل لهم أن الأول أرجعناه بسبب القرار الأخير والثانية تسللت عبر الحدود.

 

وزعقت البدوية صوتا أقام الضابط وأقعده مما استدعاه إلى لطمها.

 

" مظلومة يا سيدي... والله مظلومة "

 

فخفف الأخير من وقع الحكم عليها بأن عدل الصيغة قائلا:

 

-        إذن قل لهم أنها حاولت أن تبحث عن احدى نعاجها فتاهت عبر الحدود.

 

وعندما انطلقت السيارة العسكرية كانت الحسناء تتابع منظر رشدي بوجوم من خلال النافذة، فلوحت بيدها آسفة فلوح لها هو بالمقابل غير آسف على شيء. صفير القطار تعالى ثم .. طاك طك طاك طك

 

 

 

3-  في السيارة

 

 

التفتت البدوية إلى شريك رحلتها وقالت بلهجة حزينة:

 

-        ألم تشاهد نعجتي ؟

 

-        .......

 

-        نعجتي ضاعت

 

أجاب ببرود:

 

-        أنا بلدي ضاعت

 

وكررت بذل:

 

-        أنا أحب نعجتي

 

قال رشدي موجها كلامه إلى السائق :

 

-        لو اعتبرتموني نعجة في قطار .. حقيبة في قطار .. نقطة في قطار لواصلت سفري إلى تركيا دون أن احط قدما على أرض العروبة ولما كانت مثل هذه المتاعب ولا المتاعب التي ستتلو .

 

السائق ظل صامتا ، فبدت الشمس المطلة على الصحراء العربية لعيني رشدي أوقح من أي وقت مضى .

 

 

4-  نقطة تفتيش البلد الأول

 

 

اغلق الضابط المسؤول جواز السفر قائلا:

 

-        كان يجب عليهم أن يكتبوا ملاحظة على جواز سفرك تشير إلى الأسباب التي دعتهم لمنعك من الدخول.

 

-        لكنهم لم يفعلوا

 

-        يجب أن تعود إلى النقطة وتخبرهم بذلك.

 

-        سينتهي الدوام عما قليل ، وربما أخفق في محاولتي .

 

-        حسن الديك هوية شخصية ؟

 

فتش في جيوبه وحقيبته عن الهوية ثم سرعان ما تذكر أنها بقيت على مكتب حضرة الضابط في نقطة تفتيش البلد الثاني. وتدخل ضابط برتبة أعلى فأشار عليه بأن يترك جواز سفره لديهم بشرط أن يحضر هويته الشخصية وسيتم توقيع تأشيرة دخول له من جانبهم.

 

-        أسرع .. قبل أن يذهب حضرة الضابط لتناول طعام الغذاء .

 

 

5-  نقطة تفتيش البلد الثاني

 

 

مشيا على الأقدام. لا يدري ما الذي أتعسه وجعله يحمل حقيبته بيده. " لعل الربكة شلت قدرتك على التفكير " وفجأة جاءه صوت البدوية مستغيثا:

 

-        شوف لي نعجتي بطريقك.

 

مضى وبوده لو ضحك. وردت بزعيق أقوى من سابقه:

 

-        شوفها الله يرحم والديك.

 

" البدوية لديها احساس بوحدة الأرض .. المسكينة لم تفكر بأنها اجتازت حدود بلد ودخلت بلدا آخر "

 

لم تمض دقائق حتى كان يقف قبالة ملامح لم يرها من قبل.

 

-        لقد نسيت هويتي على هذا المكتب.

 

-        انتهى دوام الملازم ..

 

-        وما علاقة الدوام بالهوية ؟

 

-        أقصد أنني غير مسؤول عما تركته على هذا المكتب في زمن آخر .

 

-        هويتي لا تتداخل في الزمن الذي يتغير به دوام حضرتكم .

 

-        اصبر قليلا .. لعله لم يغادر النقطة بعد .

 

جلس منتظرا.

 

( بعد نصف ساعة أيقن أن الهوية ضاعت)

 

-        لم نجدها .

 

-        لكنهم في نقطة التفتيش الأخرى يطلبونها كبديل عن عدم اشارتكم خطيا على جواز السفر لسبب منعي من المرور.

 

-        أحضر جواز سفرك اذن وسنوقعه من جانبنا .

 

***

 

وهو راجع باتجاه النقطة الأولى أوقفه جندي يقوم بالحراسة بين البلدين. كان في موقع يمكنه من مشاهدة النقطتين في آن واحد. مضت دقائق طويلة قبل أن يقنع أحدهما الآخر :

 

-        رشدي محمد عواد من يافا من فلسطين ، منعوني من الدخول لأن جواز سفري أردني، عدت من حيث أتيت فاكتشفت أنني نسيت الهوية ، حاولت أن أبحث عنها فأيقنت أنها ضاعت. كنت قد تركت جواز سفري في النقطة عند حضرة الضابط الذي وعدني أن ينجز لي معاملاتي خلال المدة التي تستغرقني في البحث عن الهوية ومادامت ضاعت فجهوده الآن عبث ولا بد من إعادة جواز السفر للآخرين ليوقعوه، ثم أعيده للأولين ليوقعوه ثم أعود من حيث ابتدأت . شايف يا عم شو قصتي ؟

 

-        آه .. لقد فهمت الآن ..ولكن عليك أن تنتظر هنا حتى أستشير مسؤولي ثم نأخذك إلى النقطة .

 

عند ظل تكون له تحت الشمس في منتصف المسافة بين النقطتين جلس منتظرا، بدا منظر البدوية على البعد حزينا. " هي تود استرداد نعجة وأنت تود استرداد وطن.. وأنت في بلد وظلك في بلد آخر .. حتى استرداد ظلك أصبح مستحيلا "

 

حرس الحدود يراقبونه.

 

1972

 


 1-11-2011

Tayseer Nazmi wrote:

فرحت أنها قصت شعرها .. بل ومن شدة فرحها تركت رسالة لتبلغه. أما هو فلم يكن يعلم لماذا في صبيحة نفس اليوم تم قصقصة شرايينه خصلة خصلة. فلما وصلته الرسالة لم يكن سوى جثة هامدة. قتل بطريق الخطأ تم تسجيل الواقعة ..من يعيد لي خصلة سوداء من شعرك الآن ؟قالت الجثة في الثلاجة الموحشة.

 




 
       1     2     3     4     5     6     7     8     9    10  

 11    12